دعم الموسوعة:
Menu

 

حقوق الجنین على ضوء الشریعة والطب الحدیث

 

یستسهل البعض التعامل مع الجنین الى الدرجة الذی یدعوه أو یدعوها الى إسقاطه بطرق بدائیة او طبیة، وعدم التعاطی مع المسألة من جانبها الإنسانی، بل وتجاهل حق الجنین فی الحیاة بخاصة اذا ولجت فیه الروح، وأنه کأی إنسان یمشی على قدمین له حق التمتع بالحیاة وثمارها فی الآخرة، ولیس قطعة لحم قابعة فی نقطة مظلمة تحیطها أغشیة ثلاثة.

ومثل هذا التساهل هو الذی یجعلنا نرى جنینا لم یبلغ سن الولادة مرمیا فی سلة المهملات، او ملفوفا فی خرقة بالیة، او مولودا خنقته أمه او مولدته ورمته على جادة الطریق، وفی أحسن الأحوال ترکته یعالج الحیاة لوحده، فان سبقته ید الرحمة حفظ حیاته، وإلا مات لبرد او حر او جوع، وإذا فلت الجنین من عسر الحیاة وشرورها، فلا تفلت الأم من الجزاء والعقوبة وإن أمنت على نفسها ذل الفضیحة، لأن المجنى علیه إنسان وإن کان جنینا.legislation embroy frontcover

وإذا کانت مثل هذه الحوادث تحصل لدى أسر تحاول ان تداری فضیحة قادمة، أو أم مریضة عجز الطب عن رفع دائها إلا بإسقاط جنینها، أو تشوهات جنینیة غیر قابلة للعلاج موضعیا ینصح الطب بإسقاط الجنین، وغیر ذلک من عملیات الإسقاط، وربما تعد الکثیر منها مقبولة فی نظر الطب والشرع، وحتى العرف فی بعض البلدان، فما بال أولئک الذین یسقطون الجنین لعدم رغبة الأب فی الإنجاب خشیة إملاق، أو رغبة فی الاستمتاع بملذات الحیاة وزهوها کونه حدیث عهد فی الزواج حتى وإن مضى به شهر العسل الى سنوات طوال، أو أن مشاغل العمل تمنع الأب أو الأم من الإنجاب حتى إذا ما حل الضیف فی بطن أمه سارع أو سارعا الى إسقاطه طمعا فی دینار زائد لا یغنی ولا یسمن من جوع فی قبال ضحکة طفل او بکاء، فحتى البکاء له موسیقاه فی أذن الأم وإن کان فی مسمع الأب طنینا ورنینا بخاصة فی لیلة لیلاء سادت فیها خفافیش السهر وعزّت فیها طیور الکرى.

• شریعة الجنین

یا ترى هل ینتهی أمر الجنین بإسقاطه او رمیه بعیدا او دفنه فی حفرة فی أحسن الأحوال؟

بالطبع فان الأمر من وجهة نظر إٍسلامیة لا یتوقف عند هذا الحد، فالجنین وإن کان لحمة حمراء کما تقول أمهاتنا، لکن إسقاطه لا یعنی نهایة المطاف لأن الإسقاط موت والموت تحول لا فناء، وانتقالة لا انعدام، ولذلک فان للجنین حقوقا کما للإنسان السوی من حقوق، بل إن حقوقه تبدأ من ساعة تفکیر الأب بالزواج، فإن أحسن اختیار الزوجة أحسن لجنینه الرحم الدافئ الذی ینشأ فیه ویطل منه على حیاة اختلط یسرها بعسرها وعسلها ببصلها.

هذه الحقوق وما یترتب علیها یطالعها الفقیه آیة الله الشیخ محمد صادق محمد الکرباسی، فی کتاب "شریعة الجنین"، فی إطار 146 مسألة شرعیة، مبینا رأی الشرع فیها بما توصل الیه اجتهاده، مع تقدیم وتعلیق آیة الله الشیخ حسن رضا الغدیری، وصدر حدیثا (2008م) عن بیت العلم للنابهین فی بیروت، فی 112 صفحة من القطع الصغیر، مع باقة من الآیات الکریمة والروایات الشریفة الخاصة بالجنین.

مسائل منسیة

لیس من شک أن تشعبات الحیاة وتطورها أوجدت معها مسائل جدیدة، لم یتطرق الیها الفقهاء، مع إن الإٍسلام أباح للفقهاء إعمال العقل وبذل الجهد لمتابعتها وإبداء الموقف الشرعی منها، على إن إبراز الموقف الشرعی فی المسائل المستجدة لیست منحصرة فی الدین الإٍسلامی فحسب، فعلى سبیل المثال صوّت مجلس العموم البریطانی فی 19 أیار مایو العام الجاری 2008 على قانون یسمح بخلق أجنة إنسانیة – حیوانیة لعلاج أمراض مستعصیة، وقد جرى قبل وبعد التصویت لغط کبیر فی الأوساط الدینیة والإجتماعیة إذ اعتبرت المسألة غیر أخلاقیة برمتها، لکن حزب العمال الحاکم وهو حزب لیبرالی یدأب بعض نوابه حضور قداس یوم الأحد، لم یفرض حزبیا على نوابه التصویت على القانون بنعم أو لا، وإنما أباح لکل نائب ان یصوت بما یملیه علیه ضمیره ومعتقده، وقد جاء التصویت بالقبول 336 صوتا مقابل 176 معارضا.

والإٍسلام وهو رحمة للعالمین والرسالة الخاتمة، ولا تتقاطع نصوصه الثابتة مع حقائق العلم، ویتوخى المصلحة العامة باستجلاب المنفعة ودرء المفسدة، معنی بإبداء الرأی وعدم ترک الناس هملا، ولذلک فان الشیخ الغدیری فی مقدمة "شریعة الجنین" یرى: "لزاما على العلماء والفقهاء الذین هم الأمناء على دین الله وخلفاء الرسول (ص) بالمعنى العام، أن یهتموا بهذا الأمر اهتماما بالغاً"، ویعبر فی الوقت نفسه عن أسفه لغیاب الرأی الفقهی عن مسائل مثل مسائل الجنین، حیث: "لم أجد من الأکابر والأعاظم من تطرّق لهذه المسألة بشکل واسع وعمیق ومبسط سوى الإشارة الى بعض السنن والمستحبّات والمکروهات"، مثنیا على صاحب الکتاب بما جاء به فی شریعة الجنین، وإن کان مختصراً لکنه بمثابة تأسیس لفقه الجنین: "على الآخرین شرحها والبحث عنها نظراً لأهمیتها، حیث لها آثار فی المجتمع الإنسانی علمیا وعملیاً".

ذلکم الجنین

تتحسس المرأة الحامل کامل مراحل تطور الجنین، وهی وإن کانت تتطلع الى الیوم الموعود لکنها تحمله وهنا على وهن لما فی الحمل من آلام وتقلبات نفسیة وجسدیة تؤثر علیها سلبا، ولکنها سنة الحیاة، ووصیة الرب لمربوبه: (ووصینا الإنسان بوالدیه حملته أمّه وهناً على وهن وفصاله فی عامین أن آشکر لی ولوالدیک إلیّّ المصیر) سورة لقمان: 14، وإذا کان الأب یتحسس حرکة الجنین خارجیا وهو یضرب بقدمیه رحم والدته، فإن علماء الطب هم أقدر على فهم التفاصیل من الأم والأب معاً، وعندما یدعو الفقیه الکرباسی الى الجمع بین العلم والفقه، ذلک لأن العلم یقدم إجابات حسیة آمن بها الفقیه تعبدیا من خلال النصوص الثابتة، فمراحل تطور الجنین من نطفة حتى الإنشاء وما یترتب علیها من أحکام فقهیة من حقوق وواجبات ذات العلاقة بین الجنین ووالدیه، إنما أخذ بها الفقیه استنادا الى نصوص قرآنیة وحدیثیة، ولکن الطبیب او الباحث یقف على هذا المراحل عیانا، فتنکشف له حقائق علمیة بتفاصیلها، وربما کانت هذه التفاصیل مدخلا الى إیمانه بما جاءت بها النصوص قبل أربعة عشر قرنا، بل والإنشداد أکثر إلى خالق الوجود، فإیمان العالم غیر إیمان العابد، فهو إیمان عن درایة لا روایة.

وقصة تطور الجنین الذی ذکرها القرآن الکریم فی مواضع عدة کانت محل تأمل لدى أستاذ علم التشریح والأجنّة فی جامعة تورنتو بکندا کیث مور (keith l. moore)، صاحب الکتاب الشهیر (the developing human)، حیث اطلع على نصوص من القرآن والسنّة، فتسربت الدهشة الى أوصاله، بخاصة فی قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طین. ثم جعلناه نطفة فی قرار مکین. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فکسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارک الله أحسنُ الخالقین) المؤمنون: 12-14، ولأن العالم الحقیقی إبن الدلیل أمین على ما توصل الیه وإن خالف معتقداته الشخصیة، فانه قال قولته المشهورة: "إن التعبیرات القرآنیة عن مراحل تکون الجنین فی الإنسان لتبلغ من الدقة والشمول ما لم یبلغه العلم الحدیث، وهذا إن دلّ على شیء فإنما یدل على أن هذا القرآن لا یمکن أن یکون إلا کلام الله، وأن محمداً رسول الله".

فالمراحل القرآنیة السبع: النطفة، النطفة الأمشاج، العلقة، المضغة، العظم، اللحم، والخلق الآخر، هی المراحل نفسها التی توصل الیها علم التشریح، وهی ما أکدها کیث مور فی کتاباته، وجعلته یؤمن بالإٍسلام بوصفه الدین المکمل للأدیان السماویة، وأعلن مور فی مؤتمر الإعجاز العلمی الأول للقرآن الکریم والسنّة المطهّرة الذی عقد فی القاهرة عام 1986م، فی محاضرته وبصراحة العالم الواثق: "إننی أشهد بإعجاز الله فی خلق کل طور من أطوار القرآن الکریم، ولست أعتقد أن محمدا (ص) أو أی شخص آخر یستطیع معرفة ما یحدث فی تطور الجنین لأن هذه التطورات لم تکتشف إلا فی الجزء الأخیر من القرن العشرین، وأرید أن أؤکد على أن کل شیء قرأته فی القرآن الکریم عن نشأة الجنین وتطوره فی داخل الرحم ینطبق على کل ما أعرفه کعالم من علماء الأجنّة البارزین".

وما أثبته القرآن الکریم من قبل وأکده العلم لاحقا، ینفی نظریة التطور الداروینیة، ولذلک یعلق الشیخ الغدیری على مسألة خلق الإنسان بقوله: "ولهذه الآیات دلالة واضحة وصریحة على کیفیة خلق الله للإنسان، مما یدحض النظریات الوهمیة التی تعتمد على التدرج التکاملی للأحیاء لیکون أصل الإنسان حیواناً، أی تطوّر تدریجیا حتى أصبح إنساناً، ولا ندری هل توقفت عجلة التطور أو تحولت؟ وهذه النظریة تبنّاها دارون ولکنه لم یؤکدها ثم صدرت منه إشارات فی آخر حیاته تفید بأنها مجرد نظریة لابد من التحقق منها، وجاء العلم الحدیث أخیراً لینسف هذه النظریة، مما یدل على ضحالتها، وکل هذه النظریات یدحضها کلام الباری جل شأنه".

متى یُسقط الجنین؟

ولذلک فان هذا الجنین بهذه الخلقة العظیمة یستحق الحیاة، ویستحق النشأة الصالحة، وعلى الإنسان نفسه أن یتدبر فی خلقته من أین أتى وکیف أصبح، ولا یستضعف نفسه، کما قال الامام علی (ع):

أتزعم أنک جرم صغیر ... وفیک انطوى العالم الأکبر

وتأسیسا على ذلک، وکما یؤکد الدکتور الکرباسی: "فمن أراد أن یبحث عن الخلیقة کلها وعن قوانینها بکل أبعادها الفیزیائیة والکیمیائیة وما شاکلها فعلیه أن یقوم بدراسة نفسه، وعندها یتمکن أن یعرف قدرة ربه، ومن هنا جاء فی الحدیث: من عرف نفسه عرف ربه، وهیهات أن یعرف الانسان نفسه ... ویبقى الانسان ذلک المجهول".

ومن الثابت أن الإنسان السوی هو الذی یدرک الحیاة ومساربها والنحل ومشاربها، فیأخذ بما ینفعه فی دنیاه وآخرته، وحسب المحقق الکرباسی: "أن ناموس الحیاة البشریة یتکون من علاقات ست استخرجناها من الآیات والروایات: علاقة الإنسان بخالقه، علاقة الإنسان بنفسه، علاقة الإنسان بنظیره، علاقة الإنسان بمجتمعه، علاقة الإنسان بالدولة، علاقة الإنسان بالبیئة".

ومن مظاهر إدراک الإنسان ذکرا او أنثى لهذه العلاقات ولمعنى الحیاة إدراکه لحقوق الجنین، وعلیه یستنبط الفقیه الکرباسی من النصوص مجموعة من حقوق الجنین، ولعل أولها عدم إیذائه وآخرها عدم إسقاطه، بل لا یجوز المقاربة الجنسیة اذا کان فیها ضرر على سلامة الجنین، کما یجوز استئجار الرحم حفظا للجنین اذا کان رحم الأم الأصل غیر قادر على حمله لسبب ما، وإذا ما اسقط الجنین فیترتب على المسقط مجموعة من العقوبات من کفارة ودیة فضلا عن إثم الإسقاط إن کان عن غیر رخصة شرعیة أو طبیة. کما أن للجنین الساقط أو المسقط من أحکام ما للإنسان السوی المیت، بخاصة اذا ولجت فیه الروح واستوت خلقته، فله الغسل واللحد والکفن.

ولکن هل هناک استثناءات لإسقاط الجنین؟

نعم هناک حالات استثنائیة یحصرها آیة الله الکرباسی فی ثلاث:

أولا: اذا توقف حیاة الأم على إسقاطه شرط ثبوت ذلک عبر الطرق العلمیة الثابتة.

ثانیا: الخوف على سمعة العائلة، أو اذا کانت المرأة نفسها فی حرج شدید فیما اذا قامت بما یخالف العفة وکانت نزوة.

ثالثا: إذا کانت فی الجنین عاهة تصعب معه استمراریة الحیاة، کما لو أصیب بالفلج ولا یُحتمل علاجه، إن ثبت ذلک بما لا یوجب الشک.

ویفهم من النصوص أن حیاة الأم أولى، وحتى فی المسألة الثانیة، فان حیاة المرأة أولى، فعلى سبیل المثال إذا أخطأت المرأة فی ساعة شیطانیة وخافت على حیاتها ما تنتجه فضیحة الحمل من قتل لها من قبل ذویها، جاز لها الإسقاط، ولا یرفع عنها الإثم والکفارة. وأما فی المسألة الثالثة فان الشیخ الغدیری یعلق علیها بالقول: "وفیه أن الفلج ونحوه من الأمراض وإن کان قد تصعب معه الحیاة ولکن کونه مجوزاً للإسقاط غیر معلوم، ودعوى عدم احتمال العلاج بعد الولادة فی غیر محلها، هذا مضافا الى تقدم الطب فی عملیاته واکتشافاته".

فی الواقع أن العلم الحدیث أًصبح یرینا من حیاة الجنین ما لم نکن نعرفه قبل سنوات، فالجنین فی بطن أمه یفرح لفرحها ویحزن لحزنها، یسمعها اذا حدّثت، ویرتاح لترنیماتها، ویشجو على شجوها، ویغفو على نومها، تداعبه بلمساتها الحانیة ویداعبها برکلاته الناعمة، یخاتلها بتقلصاته ذات الیمن وذات الشمال، فإذا ما أحسنت الأم إشباع جنیها من حلال مطعمها، وأسمعته من لطیف کلامها أو کلام الله، ومارست معه الریاضة قیاما ورکوعا وسجودا فی أوقات تعبدها، ضمنت فی الغالب إبنا سعیدا، فالقول ما قاله الرسول الأکرم محمد (ص): "الشقی من شقی فی بطن أمه والسعید من سعد فی بطن أمه"، فبیضة سعادة الولید فی سلّة الأم، لها أن تلد شقیا ولها أن تلد سعیداً.