دمعة وبسمة فی وجوه ناضرة

 

لا تختلف المشاعر من حیث الکینونةُ من إنسان لآخر، وإن تباعدتِ الأجسادُ وتوزعت البلدانُ وتنوَّعتِ الأمزجة، وإذا کانت اللُّغاتُ والأعراق والجنسیات تُمیز بین بنی الإنسان، فإنَّ المشاعرَ فی الأفراح والأتراح هی واحدة، فالکل تنفرج سریرته وتُسرُّ نفسه عند سماع خبر مفرح أو رؤیة ما یفتّر عن ثغر باسم ویرفع له شفّةً علیا، والکلُّ یضیق صدره وتنحبسُ نفسه عند سماع خبر مقرح أو رؤیة ما یشدّ أعصابه ویغلق له فماً مفتوحاً، لکنَّ الاختلاف یحصل فی وسائل التعبیر ومقدار الأثر الذی یترکه الحدثُ على الإنسان ووقعه على قلبه، من هنا اختلفت الأمم والشعوب فی وصف ما یجیش بصدرها منَ السراء والضراء.

وبالتأکید فإنَّ المتابع لممارسات بنی البشر على الکرة الأرضیة فی التعامل مع الحوادث بشقَّیها المفرح والمقرح، بمسیس الحاجة إلى موسوعة متعددة الأجزاء لاستقصائها، على أنَّ التجدُّدَ هی السِّمة البارزة فی التعبیر عن المشاعر، وهذه الوسائل تُعرف معالمها من الأداء والمظهر الخارجی، بید أنَّ القاسم المشترک لکلِّ هذه المشاعر هی الدمعة والبسمة، فالأولى دالة على الحزن والثانیة دالة على الفرح، وفی حالات استثنائیة تتحول الدمعة إلى مظهر فرح عندما لا یتمالک المرء نفسه من الفرح فتغالبه الدموع، ویقال لقطرات الدمع أنها "دموع فرح"، وفی حالات استثنائیة تنقلب الضحکة والبسمة إلى نوع من أنواع التعبیر عن الحزن بخاصة حینما یأخذ الجزع من المرء مأخذا تغالبُهُ الضحکات تترى فَتقهرهُ ویلبس عباءة الهستیریا. فالدمعة هی عنوان الحزن والبسمة سمة الفرح، وقد تتحرک الدمعة فی محجر العین لا تهبط من علیائها، وقد تنهمر کالشَّلال ویهتز معها البدن لکنَّ المرءَ یحتفظ بطابع الأسى، وقد تتحول البسمة إلى ضحکة یمیسُ معها البدن ویبقى یحتفظُ صاحبُهُ ظاهراً بعلامة السرور.

ولا ینفک ابن آدم عن البکاء کما لا ینفک عن البهجة وکلاهما أصیلان فی کینونة خلقه، وبینهما یتقلب الإنسان، ومن لا یسیل الدمع حزنا لا یرشف شهد النضرة ابتهاجاً، فهما کاللیل والنهار یُعرف أحدهما بالآخر، وخیر الدمعة لذنب نستغفره أو ثغر نحرسه أو شهید نبکیه، وخیر البسمة لصدیق نلتقیه، أو بشرٍ نحضره، أو عمل خیر نؤدیه، وأعجب من امرئ تبخل عینه عن دمعة لحزن رفیق أو بسمة لاستبشار صدیق، والعجبُ کلُّ العجب من ذی حِسٍّ لا تدمع عینه لمصاب سیِّدِ الشهداء الإمام الحسین بن علی(ع)، والعجب کل العجب من عاقل لا تنفرجُ أساریرُهُ لأفراح أهل البیت(ع) الذین أذهَبَ الله عنهُمُ الرِّجْسَ وطهرهم تطهیرا.

أما کیف نفرح ونحزن بخاصة عند استذکار أهل البیت(ع) عملاً بحدیث الإمام جعفر الصادق(ع): (شیعتنا منّا یفرحون لفرحنا ویحزنون لحزننا)؟ فهذا ما یتناوله الفقیه آیة الله الشیخ محمد صادق الکرباسی فی کتاب "شریعة عاشوراء" الصادر حدیثا (2011م) عن بیت العلم للنابهین فی بیروت فی 64 صفحة من القطع الصغیر، حیث غلبت ذکرى عاشوراء واستشهاد الإمام الحسین(ع) عام 61هجریة على العنوان، مع أنَّ 92 مسألة فقهیة قد تناولت عموم أحکام الشعائر وخصوص شعیرةِ عاشوراء، وقدّم لها وعلَّق علیها الفقیه الشیخ حسن رضا الغدیری.

عالمیةُ الخطاب

تتفق البسمة والدمعة مع الشعیرة بلحاظ معناها الدال علیها، فالشعیرة من حیث المعنى هی العلامة أو المَعْلَمُ، ولیس أدل على الفرحة علامة من البسمة، ولیس أدل على الحزن علامة من الدمعة، وتأخذ الشعیرة معنى المعلم للدلالة على أهمیة الحدث وموضعه، وتقترب الشعیرة من "الشِعار" بالکسر حینما تصبح عنوان أمة وشعارها الَّذی ترفعه على الملأ، وتقترب الشعیرة من "الشَعار" بالفتح حینما تتقمَّصُهُ الشعیرة وتتلبسه کرداء لها تتمیز به عن الآخرین، ولا أعظم أسىً من مَعلم وعلامة کعاشوراء، ومن یُحیی هذا المعلم أحیا قلبه بتقوى الله: (ذَلِکَ وَمَنْ یُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) سورة الحج: 32.

ومبلغ التقوى أنْ یصل شِعار الشعیرة إلى الآخر المختلف دیناً ولغة وبلداً، لأنَّ صاحب الشعیرة شخصیة عظیمة، وعظمته لیست نابعة من نسبه فحسب، بل لأنَّه صاحب رسالة نهضویة على المستویین الإسلامی وغیر الإسلامی، فعلى المستوى الإسلامی قاد حرکة التغییر والوقوف أمام فتنة الإنحراف التی شهدها العالم الإسلامی حینما تحولت الخلافة الإسلامیة إلى ملک عضوض فیه بدأ المسلمون یشهدون وبشکل فاضح ما یخالف التعالیم التی أنزلها ربُّ الأرباب على خاتم الأنبیاء محمد(ص)، وعلى مستوى الآخر أضاءت له درب التحرُّر مِنْ قیدِ الجبتِ والطاغوت.

من هنا صارت نهضة الإمام الحسین(ع) علامةً فارقةً فی حیاة المسلمین ومَعْلَمًا من معالم التغییر على طریق بناء المجتمعات السلیمة، ولذلک وجب الإهتمام بشعائرها لأنَّها حیاةُ الأمم ورقیُّها، وکما یقول الفقیه الکرباسی: "فکل شعیرة من هذه الشعائر مَعلمٌ من معالم الحق والحقیقة، لها دور هام فی إحیاء الدین وإعلاء کلمة الله والحفاظ على مبانی الدعوة الإسلامیة وحقوق الإنسان، فیجب شرعا وعقلاً إحیاؤها بما یمکن"، وإحیاء الشعائر الحسینیة فی واقعها تذکیر العالَم بالمظلومیة وبأهمیة التحرُّر نحو بناء عالَمٍ عادلٍ، وکما یؤکد الشیخ الکرباسی: "ولیوم عاشوراء دور أساس فی إیصال صوت العدالة الإنسانیة إلى أنحاء العالم، وهو یوم عظیم لا عدیل له ولا مثیل فی التاریخ، وبه تمَّ تحقیق الأهداف السامیة والمقاصد العالیة للرسالة المحمدیة الغراء والشریعة الإلهیة العلیا، وبه تمَّ فهم العلاقة بین النهضتین، نهضة النبوة ونهضة الإمامة" وهنا تتوحَّدُ النبوَّةُ بالإمامة على أرضیة العالمیَّة: (وَمَا أَرْسَلْنَاکَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِینَ) سورة الأنبیاء: 107، کما تتوحد على خاتمیة الرَّسائل السماویَّة وبتقدیر الکرباسی: "إنًّ إحیاء ذکراه – الإمام الحسین- هو إحیاء لذکرى الأنبیاء والرسل هدفاً ومضموناً، إحیاء للفکر المعتدل وصوت الحق الصادح ونبض القلب الفاعل"، وهی نهضة: "شعاراتها واضحة وجلیَّة خُططت للبشریة جمعاء، فلم تشأ أنْ تکونَ لفئة دون أخرى، ومن هنا کانت الخطابات والتصریحات والشعائر غیر مؤطَّرة بأطُر مذهبیةٍ ولا قومیةٍ ولا وقتیةٍ ولا جغرافیة"، فروح الشعائر الحسینیة متمثلة فی ثنائیة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وهی ثنائیة مزروعة فی ضمیر کُلِّ إنسان مسلماً أو غیر مسلم.

ولأنَّ الخطاب الحسینی کان عالمیا، ولأنَّ البشریةَ متنوعةٌ فی لغاتها ومعتقداتها وعاداتها وتقالیدها، فإنَّ الکرباسی فیما یخص إقامة الشعائر الحسینیة ومن أجل تقریب الآخر إلى الإسلام وتعریفه بحقیقة النهضة الحسینیة یدعو إلى: "تأسیس لجنة علیا من ذوی الإختصاص بعلم النفس والإجتماع والتاریخ والدین تحت إشراف المرجعیَّات الدینیة لوضع أسالیب جدیدة لجذب الناس وتحریک عواطفهم بما یتوافق مع الشرع المبین"، وهذه دعوة تنسجم مع دعوة سابقة تقدم بها المحقق الکرباسی لتشکیل "النقابة العالمیَّة للخطباء والمبلِّغین" أودعها فی مقدمة الجزء الأول من کتاب "معجم خطباء المنبر الحسینی"، بلحاظ أن الخطباء والمبلغین والدعاة هم صوت الإسلام الناطق.  

مسائلُ حیاتیَّة

ویلاحظ فی سلسلة "الشرائع" أنَّ مسائلها الفقهیة تمسّ حیاة الإنسان الیومیَّة عن قرب، وزادها نموذجیَّةً أنَّ الفقیه الکرباسی یعیش منذ عقود فی بریطانیا وقریبٌ من المدنیة الغربیة ومستجداتها وبالتالی أقدر على الکشف الفقهی للمسألة، ولهذا فإنَّ عدداً غیر قلیل من المسائل الواردة فی "شریعة عاشوراء" لاحظ فیها الجغرافیة والبیئة ومدى جواز إقامة الشعائر الحسینیة من عدمه فی بیئات غربیَّة، ومن الثابت أنَّ الفقیه الذی یحتک بالغرب بشکل مباشر له خصوصیَّةُ معاینةِ الشعائر الحسینیة ومدى ملاءمتها لکلِّ مجتمع، ولهذا یرى أنَّ: (الشعائر الحسینیة إذا کانت من حیث الأداءُ مشروعةً فترتبط حلِّیتُها وحرمتُها بالنتائج نسبةً إلى الزمان والمکان، فإذا کانت تؤدِّی إلى تعزیز الموقف الإسلامی وجذب الأمة إلى الأهداف الإسلامیة کانت جائزة، حسب الزَّمان والمکان، وإن کانت تؤدِّی إلى إبعاد الأمَّة عن الأهداف الإسلامیة والتی لأجلها شُرِّعت فتکون محرَّمة حسب الزمان والمکان)، وهو کفقیه یقرِّرُ أنَّه: (قد تکون بعض الشعائر الحسینیة فی مکان جائزة وفی مکان آخر محرَّمة، وقد یکون بعضها فی بعض الأزمان جائزة وفی غیرها محرَّمة) ولیس کُلُّ إنسان أهلاً لتشخیص الجواز مِن عدمه حتى وإنْ کان هذا الشخص مُداوِمًا على إقامة الشعائر الحسینیة، وإنَّما کما یعلقُ الفقیه الغدیری أنْ: (یکون أمر تشخیص الموارد وتمییزها بید الخبراء فی العلم، ولا یوکل ذلک على العوام ألبتَّه).

ولا یخفى أنَّ للمؤدَّى والمُحتوى والأسلوب مدخلیَّة فی جواز وعدم جواز ما یوصفُ بعضُها بالشعائر الحسینیة، ولذلک فإنَّ الفقیه الکرباسی یرى شروطا خمسة فی حلِّیة الشعائر الحسینیة: أنْ لا تکون بذاتها إحدى المحرمات، وأنْ لا یصحبَها شیءٌ من المحرَّمات، وأنْ لا تؤدی إلى شیء مِن المحرَّمات، وأنْ یکون أداؤها إعلاءً لکلمة الله، وأنْ یکون أداؤها یُحیی القلوب. وفی تعلیقه على الشروط یرى الشیخ الغدیری أن الأحکامَ الخاصَّةَ بالشعائر: (تُبتنى على ما ورد فی الأحادیث حول عاشوراء، وجاء ذکر بعض الأعمال منها فی التاریخ عن سیرة الأئمة المعصومین(ع) وإلاَّ فهی استنباطات علمیة فقهیة، بذل المؤلف الفاضل حفظه الله الجهود الفکریة الهامَّة فی استخراج الأحکام مطابقة للأدلة المعتبرة فیها)، ویقررُ أنَّه: (کان من الأحرى أن تُذکر تلک الأحکام فی الرسائل العملیة للمراجع العظام بلحاظ أهمیتها وحاجة المؤمنین إلیها فی إقامة العزاء)، وهی دعوة طیبة یفترض أن تأخذ بها الحوزاتُ العلمیة والمحافلُ الفقهیة.

ویشاهد القارئ فی المسائل التی طرقها الفقیه الکرباسی أنَّها تنطوی على شجاعة فی العرض نابعةٍ مِن شخصیته العلمیة التی تنحو باتجاه البحث والتدقیق وتغلیب البحث العلمی على الجذب العاطفی، ولذلک فهو فی الوقت الذی یرفض تفریغ الشعائر الحسینیة من محتواها أو العمل من الداخل للقضاء علیها یدعو إلى عدم المتاجرة بها لعواقبها الوخیمة على المتاجر بها فی الدنیا قبل الآخرة، کما یطالب بعدم الإنجرار إلى حرب لا طائل منها بین أتباع مراجع التقلید فـ : (الشعائر الحسینیة غیر المنصوص علیها إذا أفتى مجتهد بحرمتها وآخر بجوازها، یعمل کلٌّ حسب فتوى مُقلَّده، ولا یجوز لأحد قمع تلک الشعائر بمجرد أنها تخالف فتوى مجتهده، إلاَّ إذا کان حاکم الشرع الجامع للشرائط مبسوط الید، ویرى المصلحة العامة التوقف عنها بالأخص فی الأماکن العامة).

وفی الوقت الذی یدعو فیه الفقیه الکرباسی إلى إعطاء ذکرى عاشوراء میزتها ولاسیما ما یتعلَّقُ بإحیائها خلال الأیام العشرة الأولى من محرم الحرام، لا یذهب إلى ما ذهب إلیه بعض المتأخرین منذ مطلع القرن الخامس عشر الهجری من تعمیم الأیام العشرة إلى باقی وفیات المعصومین ذلک أنَّ: (لذکرى استشهاد الإمام الحسین(ع) خصوصیَّةٌ، فلذلک کان الأئمة(ع) یحیونها على مدى عشرة أیام ولم یفعلوا بالنسبة إلى غیره من المعصومین(ع) فالأفضل المحافظة على هذه المیزة)، ویذهب أبعدَ مِن ذلک إلى رفض إغراء الأمة بالجهل المعرفی بخصوص تشخیص تاریخ وفاة بعض المعصومین ولهذا یرى أنه: (ینبغی للمحققین تحدید یوم وفاة ومیلاد المعصومین(ع) حتى توحَّد ذکریاتهم وإحیاؤها بشکل موحد وبجهود مشترکة).

فی الواقع أن کتاب "شریعة عاشوراء" الذی یشکل جزءًا من ألف عنوانٍ فی المعاملات والعبادات والمسائل المستحدثة یعکف علیها الفقیه الکرباسی فی بیان مسائلها الفقهیة ینضمُّ إلى سلسلة الشرائع الصادرة فی فترات سابقة وهی: "شریعة الإتصالات"، "شریعة الوقف"، شریعة الإنتخاب"، "شریعة المواصلات"، "شریعة التجوید"، "شریعة الترهیب"، "شریعة التکلیف"، "شریعة التوقیت"، "شریعة الجنین"، "شریعة الجمعة"، "شریعة العید"، و"شریعة الخدمة"، وهی بمجموعها تحکی عن حرکیة الفقه الإسلامی وانسجامه مع متطلبات الحیاة الیومیة ومستجداتها.