دعم الموسوعة:
Menu

 

خلف عباءة التقدیس اغتصبوا حق النصف الآخر!

 

لا تختلف ثقافة المرء من بلد عن آخر، من حیث السلوکیات والأداء الیومی، فمقومات الإنسان المثقف الواعی ترشح آثارها على المحیط الإجتماعی فی أی بلد من بلدان الأرض بلحاظ أن الثقافة لیست ظاهرة طارئة تزول بزوال المؤثر، فمن یکون منظما ومحترما للقانون فی بلد یسوده النظام وحکم القانون سیکون منظماً فی البلد الذی تقل فیها عوامل النظام أو تنعدم فیه مؤشرات القانون، فقیمة المثقف هی فیما یحمله من ثقافة فی اتجاهات مختلفة ویشار إلیه بالبنان إذا استطاع أن یترجم ثقافته السلوکیة السویة على ارض الواقع، وأن یکون مؤثرا فاعلا فی تذلیل الجوانب السلبیة لا متأثرا بها، ویتأثر بالجوانب الایجابیة ویفعّلها ویتفاعل معها لا نافراً منها.

وفی مجال المشی والحرکة واستخدام وسائل النقل القدیمة والحدیثة، فإن المرء تظهر علیه معالم الثقافة العالیة من خلال هیئته فی نمط الحرکة والسیر، فالاتزان فی المشی دالة على نوعیة الثقافة وقیمومتها، کما أن بشاشة الوجه عند لقاء الآخرین تعبّر عن ثقافة لاحترام وقبول الآخر القریب أو البعید، ولذلک یقدم القرآن الکریم درسا فی ثقافة المشی والحرکة فی الشارع بقوله: "وَلا تَمْشِ فِی الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّکَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً. کُلُّ ذَلِکَ کَانَ سَیِّئُهُ عِنْدَ رَبِّکَ مَکْرُوهاً. ذَلِکَ مِمَّا أَوْحَى إِلَیْکَ رَبُّکَ مِنْ الْحِکْمَةِ" (الإسراء: 38-39)، لأن الحرکة الواعیة لیست ثقافة فحسب بل هی واحدة من موارد نشر السلام والوئام فی الشارع العام، وفی الوقت نفسه حث الآخر على الالتزام بآداب السیر، ومن أظهر وصایا لقمان الحکیم لابنه هو دفعه باتجاه التخلق بأدب الطریق وثقافة معاشرة الآخرین کما أبان عنها القرآن الکریم على لسانه:" لا تُصَعِّرْ خَدَّکَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِی الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا یُحِبُّ کُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِی مَشْیِکَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِکَ إِنَّ أَنکَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِیرِ" (سورة لقمان: 18-19).

مثاقفة سلوکیة

ولا شک أن ثقافة السیر وآدابها لا تقتصر على المشی أو السیر راجلا، صحیح أن المصداق العام للآیات الکریمات یوحی بذلک، بید أن مصادیقها تتوزع إلى کل ما ینطبق علیه مفهوم الحرکة والسیر راجلا أو راکبا، فرکوب وسائل النقل القدیمة منها والحدیثة له ثقافته وآدابه وسلوکه، فما یفترض على المشی راجلا من آداب یفترض فیه راکبا، إن کان بالمباشرة کأن یقود الراکب الدراجة أو السیارة، أو بالواسطة کأن یکون احد المستقلین لآلیة نقل خصوصیة أو عمومیة، لأن الآداب والسلوکیات واحدة لا تختلف من حیث مثالها الخیّر، فالمثل العلیا تبقى محافظة على نقاوة کینونیتها فی کل زمان ومکان، وهی بالأصل عنوان الإنسان والإنسانیة بغض النظر عن الدین والمعتقد والجنس، کون أنظمة السیر أوجدها الإنسان لتنظیم حرکة الحیاة وتطویع مرافقها، فهی منسجمة مع طبیعته الإنسیة وفطرته، وما یقدمه الشرع من توصیات واجبة أو مستحبة إنما یراد منها خیر الإنسان وإرشاده إلى منتهى الصواب.

ولأن الدین الحق یشجع الإنسان على استثمار الأرض وفضائها وتطویرها بما یقلل من الأعباء، فإن حرکة المواصلات کانت جزءاً من هذا التطور الذی شهدته البشریة فی استخدامها لوسائل النقل البریة والبحریة والجویة، وحتى یکون الإنسان أقرب إلى الواقع تشریعیا فی تعامله الیومی مع هذا التطور صدر حدیثا للفقیه آیة الله الشیخ محمد صادق الکرباسی کتاب "شریعة المواصلات" فی 48 صفحة من القطع الصغیر عن بیت العلم للنابهین ببیروت، فیه مجموعة من الأحکام الخاصة بوسائل النقل المختلفة، قدّم له وعلق علیه الفقیه آیة الله الشیخ حسن رضا الغدیری.

بدعة الإبتداع!

والبدعة لغة هی الابتداع أو الإیجاد على غیر مثال سابق، ومنها قوله تعالى: "بدیع السماوات والأرض" أی أوجدها من غیر نموذج سابق، ومن الناحیة الشرعیة فهی إدخال فی الدین ما لیس منه بما لم یرد فیه نص من قرآن أو حدیث، أو إخراج ما هو منه، بید أن السؤال الذی یتسمر على الطریق، وهل تطویر وسائل النقل یعد من البدعة التی ورد النهی عنها؟

یفترض ابتداءاً أن لیس لمثل هذا السؤال محل من التشریعات لولا قلة من رجال دین وجدوا فی کل ما ینتجه الإنسان بدعة وضلالا وبخاصة إذا انحدر المبتدع إلى العالم الإسلامی من بلاد الغرب، وحجتهم فیما یذهبون أن المنتوج المتهم لم یکن على عهد الإسلام الأول، ولا یخفى أن هذا التفکیر المتقاطع مع العقلانیة یتعارض مع التطور البشری ویناقض العلم الحدیث، وحیث لا تعارض بین العلم والدین، فإن الحظر على أی تطور فی صالح البشریة هو معارضة للدین، فإذا کان المنتوج الجدید بدعة فإن معارضته والحکم علیه بالضلال إنما هو وقوف فی وجه الدین، وابتداع فیما لم ینزل به وحی أو نص!

ومن المنتوج البشری الذی لم یعهده الأوائل هی وسائل النقل المتنوعة، التی وجد فیها البعض بدعة، ومن طریف القول کما یقول الفقیه الکرباسی: "ان هناک فئة من ذوی العقول المتحجرة یحرمون استخدام هذه الآلات اعتماداً على أنها بدعة فی الحیاة، والبدعة محرمة، وبما أنها لم تکن على أیام الرسول (ص) ولم یستخدمها السلف الصالح فالواجب التجنب عنها وعدم استخدامها"، وهذا النوع من الفهم المغلوط للبدعة هو تعطیل للعقل وتجمید للإرادة بل فی نظر الشیخ الکرباسی: "انه من التخلف الذی هو بعید عن منهج الإسلام، بل هو نوع من أنواع الإفتراء على الإسلام، ولعل القائلین بذلک أو مَن هم وراءهم من أعداء الإسلام یریدون التنقیص منه والنیل من قداسته باسم الإسلام".

والبعض توقف على النص، وتمسک بحدود قوله تعالى: " وَالْخَیْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِیرَ لِتَرْکَبُوهَا وَزِینَةً وَیَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ" (سورة النحل: 8)، ورفض ما دون ذلک من وسائل النقل الحدیث، بخاصة عندما نزلت الآلیات الحدیثة إلى الشارع لأول مرة.

ولا شک أن تجمید النص وتعطیل العقل وحبس الید لا یتوافق ومنطق التطور الذی دعت إلیه الفطرة، بخاصة وأن العقل هو سید الأعمال وإعماله فی الخیر یمثل بنظر الإسلام عبادة، ولکن فی المقابل نجد البعض أفرط فی التحریم لیصل إلى الحیوان نفسه فمنع الاستفادة منه بزعم "الدفاع عن الحیوان" وحظر الاستخدامات المختلفة للحیوان فی الأعمال الیومیة التی تعاهدتها البشریة منذ یومها الأول، ولیست هذه دعوة جدیدة، ومن الظریف أنه لما صار إلى وضع المحامل على البعیر کنوع من أنواع تطویر وسائل النقل البری فی غابر العصر الأول، ارتجز أحدهم وأنشد (البیان والتبیین: 2/304):

أول عبدٍ عمل المحاملا *** أخزاه ربّی عاجلا وآجلا

ورغم أن الراجز أراد باللعن الفاعل لظلمه وشدة بطشه، ولکن فی البیت إشارة إلى رفض الجدید.

وللمرء أن یتصور ماذا یقول البعض بحق صنّاع العجلات والسیارات والطائرات والسفن والمرکبات الفضائیة وغیرها من وسائل النقل الحدیثة أو التی ستنتج فی المستقبل من قبیل السیارات الطائرة، وأی نار حاطمة سیخلد فیها دعاة البدعة العلمیة!

الإنسان أولاً

فی الواقع أن الدین لا یحظر التطور، ووسائل النقل والمواصلات منها، بل أن الآیة السابقة: "ویخلق ما لا تعلمون" إشارة إلى تطور وسائل النقل فی المستقبل، کما انه یشجع على التقدم فی مجالات الحیاة کافة، ویقدم إشارات جلیة وخفیة إلى استخدام وسائل النقل فی اختراق السماء وسلک دروبها کما فی الآیة 33 من سورة الرحمان: "یَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ"، ولا یستبعد الفقیه الکرباسی بناءاً على معطیات الآیة الکریمة إمکان المشارکة بین الجن والإنس فی ارتیاد طرق السماء ذلک أن: "اشتراک الجن فی مسألة اختراق الفضاء ربما یدل على أن للجن حضارة کالإنسان، وقد سبقت أو ستأتی، إذ أن الجن والإنس سیتعاونون فی یوم من الأیام فی اختراق السماء بعد تطور العلم وإمکان التواصل بین هذه المخلوقین"..

ولا غبار بأن راحة الإنسان مقدمة، لأن الله أوجد الأرض وجعلها مهدا للإنسان من أجل إحیائها وإعمار النفس معاً، وهذا یقتضی التقدم والرقی والحث علیهما، وتنجیز کل ما من شأنه المساعدة على راحة الإنسان وسعادته، وکلما کانت وسائل النقل مریحة أمکن إسعاد المرء، وفی المفهوم الدینی فان وسائل النقل المریحة من شانها أن تساعد العبد على التقرب إلى الله، فالحج على سبیل المثال، کان فی عصور ما قبل الطائرات والسیارات یستغرق شهرا أو أشهرا، والقلیل من الناس من یکرر الحج والعمرة، فی حین صار من السهل الحج إلى بیت الله الحرام أو الإعتمار أو الإعتکاف فی کل موسم، وعلى هذا فقس.

ولکن رغم هذا التطور والتشجیع علیه فإنه ینبغی مراعاة الشأن الإنسانی والمحیط الإجتماعی والبیئی والطبیعی، والاستفادة من کل آلیة نقل بما تعین الإنسان على العیش فی هذه الدنیا بما یرضی الرب والعبد ویحافظ على سلامة البلد ولا یغضب الطبیعة ولا یزید من سخطها، ولهذا على سبیل المثال یحظر فی بعض المطارات إقلاع وهبوط الطائرات فی ساعات متأخرة من اللیل منعا لإزعاج الساکنین بالقرب منها، لأن راحة المواطن هنا تتعارض مع راحة المسافر، والأول مقدم رتبة على الثانی من حیث ثبوت الحق له.

ولا تتخلف راحة المواطن عن سلامة البیئة، لأن سلامته من سلامتها، وهی مقدمة على کل شیء، ولذلک لا یصح تحت دعوى التطور العلمی استغلال وسائل النقل والمواصلات المختلفة بما یساعد على زیادة التلوث البیئی أو تدمیر الثروة الحیوانیة أو تخریب طبقة الأزون، من هنا فإن الفقیه الکرباسی یعتقد انه: "إذا تسببت بعض وسائل النقل بتلوث البیئة بأکثر من المتعارف، یحرّم استخدامها وعلى المسافرین مقاطعتها" ویؤکد على الحرمة الشرعیة لکل ما من شأنه تخریب البیئة وذلک أن: "استخدام أی وسیلة توجب الإضرار البالغ بالبیئة أو الطبیعة بشکل غیر مألوف لا یجوز، فلو أن بعض وسائل النقل البحریة تسببت فی القضاء على الثروة السمکیة فإن استخدامها محرّم".

إحتکار الحق!

ولا یخفى أنه لا یمکن التعویل على رأی القلة القلیلة الذین حرّموا استخدام وسائل النقل المتطورة واعتبروها من البدعة والخروج عن السنة، فالرأی العقلائی الغالب هو الحلیة، وفی أول مسألة من مسائل شریعة المواصلات یرى الدکتور الکرباسی أن: "استخدام المواصلات بجمیع أنواعها جائزة بحد ذاتها والقول بأنها من البدع باطل" وحسب تعلیق الفقیه الغدیری أن قول البعض ببدعة وسائل النقل الحدیثة هو: "بنفسه بدعة، لأن الشارع المقدس قد أباح للعباد نوعیة العمل للوصول إلى الغرض الشرعی وبیّن صوراً محرّمة جملة وتفصیلاً، وکذلک بلّغ فی رسالاته إلى کل ما یحتاج إلیه البشر أصولا وفروعا فی الکتاب والسنّة، فمن أدخل فی الدین ما لیس منه أو اخرج من الدین ما هو منه فقد ارتکب البدعة المحرمة، فأین ذلک فی استخدام الوسائل النقلیة من الإدخال فی الدین أو الإخراج منه حتى یحکم بکونه بدعة، بل ویمکن أن نقول إن القول ببدعة هذا العمل ونحوه هو شکل من أشکال الإخراج من الدین ما کان داخلاً فیه، أی الإباحة والحلیة والرخصة، أو نقول إن هؤلاء إما جهال أو أعداء وکونهم من الأعداء اظهر وأقوى من کونهم جُهال، والله علیم بذات الصدور".

وهناک نفر قلیل قَصَر الحلیّة على الذکر دون الأنثى فی قیادة وسائل النقل الحدیثة، بالحجة نفسها، لکن الفقیه الکرباسی یعتقد أنه: "یجوز للمرأة کما للرجل قیادة السیارة والطائرة والقطار والسفینة والدراجة وغیرها" أی ما یصح للرجل یصح للمرأة فی أیة آلیة نقل، ما لم یخالف طبیعة المرأة والدین والعرف الإجتماعی، ویوافقه الشیخ الغدیری الرأی: "لعدم ورود المنع عنه فی الشرع الإسلامی إلا إذا کان فیه محذور شرعی، فمع رعایة الموازین الشرعیة والعقلائیة لا مانع فیه، وأما الدراجة فیمکن فرض الاستهجان العرفی، ولکن مع حفظ الموازین لا یکون فیه بأس"، وربما أراد البعض من فتاوى المنع تحصینها، ولکن خلف عباءة تقدیس المرأة تم اغتصاب حقوقها!

إن شریعة المواصلات کسابقاتها من سلسلة "الشریعة" یعکف آیة الله الشیخ محمد صادق الکرباسی على بیان أحکامها، تمثل محاولة فقهیة لبیان آخر المستجدات على مستوى الحیاة البشریة المماسّة لحرکة الإنسان الیومیة، فکما یفترض فیه معرفة القوانین التی بموجبها یمیز بین حقوقه وواجباته، فإن معرفة الأحکام الشرعیة تعینه على التحکم بحیاته وضبط مسیرتها بما لا یخالف الشرع أو
العرف وهی تقوده إلى حفظ حقوقه وصیانة حقوق الآخرین ودرء التداخل المرفوض فی الحقوق والواجبات، وهذا ما تدعو إلیه التشریعات کافّة، ولیس أحکم من تعالیم الإسلام وإرشاداته فی صیانة حقوق الإنسان والحیوان والجماد والبیئة والطبیعة والفضاء الخارجی
.